خواطر عنّا وأخرى من “القارة اللاتينية”

خواطر عنّا وأخرى من “القارة اللاتينية”

المغرب اليوم -

خواطر عنّا وأخرى من “القارة اللاتينية”

بقلم - عريب الرنتاوي

تزامن صعود الإسلام السياسي في المنطقة العربية مع صعود قوى اليسار في أمريكا اللاتينية، فبدا أن الظاهرة الإسلامية نجحت في تجسيد وقيادة حركات الاحتجاج على الأنظمة والحكومات ومن دعمها من القوى الغربية، في حين بدا أن اليسار اللاتيني هو التعبير الاحتجاجي ضد أنظمة ديكتاتورية و”جمهوريات موز” لطالما خضعت لإملاءات الاحتكارات الكبرى ودوائر استخبارية تستميت في الدفاع عن مصالحها.

ثمة من يعتقد أن الإسلام السياسي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن المنطقة دخلت في “طور ما بعد الإسلام السياسي”، وثمة “تنظير” متعدد المشارب يصب في هذا الاتجاه ... في المقابل، ثمة من استعجل في استصدار “شهادات الوفاة” وكتب “النعي” لليسار اللاتيني بعد تعثره في عدد متزايد من دول القارة الأمريكية الجنوبية ... وفي كلتا التجربتين على اختلافهما وتباعدهما، ثمة العديد من الأسئلة الغائبة التي تستحق البحث و”التنبيش”.

وأبدأ بالقول إن سبب صعود الظاهرتين، ربما يكون واحداً ... ثمة جماهير عريضة متضررة من سياسات “الليبرالية المتوحشة” وبرامج التصحيح الاقتصادي المفتقرة للشفافية وعديمة الحساسية حيال “البعد الاجتماعي” الواجب مراعاته عند الشروع في مشاريع إصلاحية عملاقة ... في كلا التجربتين، كان الفساد والاستبداد، عنواناً مشتركاً للظاهرتين وسبباً رئيساً في انتشارهما وتجذرهما.

بخلاف ذلك، لا يمكن الحديث عن جوامع ومشتركات ... الإسلام السياسي يفتقر لبرامج اقتصادية – اجتماعية خاصة به، رغم الادعاءات الكبيرة حول “نظرية الاقتصاد الإسلامي” التي هي في جوهرها، نظرية رأسمالية بامتياز، ومعظم إن لم نقل جميع تجارب حكم الإسلامي السياسي في منطقتنا بدأت بالخصخصة تحت إشراف صندوق النقد الدولي، ومدت يدها إلى “قروضه المشروطة”، فكانت في واقع الحال، امتداداً للأزمة التي جاءت بها إلى السلطة، ولم تكن في مقارباتها وبرامجها، نقيضاً لها.

الصورة على المقلب الآخر من الكرة الأرضية، كانت مغايرة إلى حد كبير... صحيح أن هذا اليسار تخلى عن الشيوعية حتى في موطنها “اللاتيني الأول”: كوبا، بيد أن الصحيح كذلك، أن هذا اليسار نجح في تقديم بدائل اقتصادية – اجتماعية، تقترب من مراعاة المصالح الأساسية للفئات الاجتماعية والمهمشة في تلك المجتمعات، من دون أن يتمكن في توفير الحلول الجذرية والمستدامة لأسباب التهميش والإفقار الذي عانت منه بعض شعوب القارة.

التجربة الأكثر وضوحاً في إدارة وتدبير الشأن العام، من قبل حزب ذي مرجعية إسلامية، كانت في تركيا، والحقيقة أن تجربة الاقتصاد التركي، زمن المعجزة الاقتصادية التي شارفت على خواتيمها، كانت تجربة رأسمالية – غربية بامتياز، ولم تتميز بأي طابع “إسلامي” على الإطلاق، ومن تتبع التدابير الاقتصادية لحكومة النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب، ومن قبلهما حكومة الدكتور محمد مرسي في مصر، القصيرة على أية حال، يرى أنها سارت على ذات الطريق، الذي انتهجته لسنوات وعقود، الأنظمة التي أسقطتها الثورات والحركات الاحتجاجية والانتخابات في تلك الدول.

من هنا، نرى أن الارتياح للتغيير السياسي في دول الربيع العربي، لم يصاحبه ارتياح للأداء الاقتصادي والاجتماعي، والصورة في تركيا تتجه صوب هذه الخلاصة، إذا ما فقدت “المعجزة الاقتصادية” ألقها وبريقها، سيما وأن الحالة التركية، تشهد انتكاسة على المستوى السياسي الداخلي، إذ تنتظر البلاد، تجربة حكم “الرجل الواحد”، تحت مظلة التعديلات الدستورية المثيرة للإشكال.

في أمريكا اللاتينية، عجز اليسار بدوره عن تقديم حلول جذرية ناجعة لمشكلات، إذ بالرغم من الشخصية الثورية الكارزمية للراحل هوغو شافيز، وقدرته على توفير حلول آنية لمشكلات الفئات الأكثر عوزاً وفقراً، إلا أن فنزويلا تعاني أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة، سمحت لأكثر التيارات ليبرالية في العودة من جديد إلى صدارة المشهد الانتخابي.

لا وجه للمقارنة بين القارة اللاتينية والعالم العربي، التحول الديمقراطي قطع أشواطاً كبيرة للأمام، ومأزق اليسار هناك، من النوع القابل للمعالجة في قادمات السنين، وفي سياق تداول السلطة، فاليمين اللاتيني ليست لديه بدوره حلولاً سحرية لأزمات البلاد والعباد، وقد يتغذى اليسار بأزمات اليمين، ويعيد تكييف برامجه ولملمة صفوفه من جديد.

لكن المشكلة في العالم العربي، أنه في معظمه ما زال يعيش في “ثنائيات قاتلة”، فإما الإسلاميين أو حكم “العسكر” أو “الدولة العميقة”، ولا معادل موضوعياً لهم في الشارع إلى باستثناء عدد قليل جداً من المجتمعات (تونس والمغرب بدرجة معينة) ... ولذلك على الذين يعتقدون أن أفول نجم الإسلام السياسي، أو دخول المنطقة في مرحلة “ما بعد الإسلام السياسي” ألا يراهنوا كثيراً على أن ذلك سيفتح الباب للانتقال الديمقراطي، فالقوى المرشحة لملء الفراغ الناجم عن هذا التراجع أو التآكل، هي قوى غير ديمقراطية، بل ومناهضة للديمقراطية بدورها.

وقبل أن أختم، لا بد من الإشارة إلى الإسلام السياسي في بلادنا، توفرت لبعض أطراف وقواه، فرصة للتطور على طريق “لاهوت التحرير” في أمريكا اللاتينية، لو أنها نجحت في تعظيم المكون الوطني والقومي في خطابها، وتمكنت من الخلاص من خطابها الخشبي العتيق، الذي تحول مع تطور أزمات المنطقة، إلى خطاب ماضوي، مذهبي، فئوي، منخرط في صراعات الداخل، بدل التفرغ لإنجاز مهمة الاستقلال والتحرر الوطني، والاندماج في “الهويات الوطنية والقومية”، فتحول من إحدى روافع المشروع الوطني إلى إحدى عوائق هذا المشروع، مع أن التجربة كانت تحمل في طيّاتها فرصاً واعدة، نجحت في أمريكا اللاتينية وفشلت في منطقتنا، التي ما زالت عصية على الفهم والإدراك والنجاح، ودائماً لاختلاف السياقين.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خواطر عنّا وأخرى من “القارة اللاتينية” خواطر عنّا وأخرى من “القارة اللاتينية”



GMT 07:34 2018 الخميس ,14 حزيران / يونيو

تركيا وأوروبا: سُحب الأزمة

GMT 00:14 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

الإسلام السياسي ونتائج انتخابات ثلاث

GMT 05:34 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

بغداد صباح الجمعة

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 17:57 2020 الجمعة ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادي التحدي يبرم عدة صفقات استعدادًا للدوري الليبي

GMT 21:00 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

ترامب ينشر خريطة دولة فلسطين وفقا لـ"صفقة القرن"

GMT 11:26 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

أسعار النفط ترتفع بسبب توقف خط أنابيب في بحر الشمال

GMT 02:55 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مجتمع اليخوت الفاخرة مقصد أصحاب لثروات في موناكو

GMT 23:36 2017 السبت ,30 أيلول / سبتمبر

أجزاؤها أشيائي

GMT 15:10 2015 الإثنين ,02 شباط / فبراير

سلطة العدس

GMT 17:34 2012 الثلاثاء ,25 أيلول / سبتمبر

صوفيا فيرغارا في تصميم لزهير مراد

GMT 04:22 2016 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

ضريح القديس يهوذا وحصنه الشاهق يزيّنان جانسي الهندية

GMT 22:06 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

صلاح الدين بصير شبح أسود لحراس المرمى

GMT 15:09 2017 الثلاثاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

إحباط سرقة سيارة لنقل الأموال في أيت أورير ضواحي مراكش
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
Libya Today News
Libya Today
Salah Eldain Street
Hay Al-Zouhour
Tripoli
Tripoli, Tripoli District, 218 Libya