نهاية الدولة العميقة

نهاية الدولة العميقة

المغرب اليوم -

نهاية الدولة العميقة

بقلم : حسن طارق

سواء في أمريكا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، اليونان، هولندا، إسبانيا… فإن زلزالا سياسيا جارفا في طريقه إلى إعادة تشكيل الخرائط الانتخابية والحزبية والإيديولوجية، الموروثة عن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يعني في نهاية التحليل، وبكثير من الاختصار والكثافة، أن الديمقراطية في هذه الجغرافيات، وهي بالضبط موطنها المرجعي، كثقافة وكقيم توجد أمام لحظة تحول كبرى.

قليلا ما يتم الانتباه إلى جزء مهم من هذا المخاض، إذ يتعلق الأمر بتحول الموقف من الدولة “العميقة” ونخبها “التقليدية”، إلى عامل مهيكل للاصطفافات السياسية الجديدة، والتي يراد إنضاجها على أنقاض التقاطب المؤسس للتناوب في الديمقراطيات الغربية، بين التصورين المتنافسين حول مرحلة ما بعد “دولة الرعاية الاجتماعية”، والمستمدين من تقليدين فلسفيين عميقين، ينطلق الأول من فكرة الحرية، وينطلق الثاني من فكرة المساواة، لكي يصلا في النهاية إلى مساحة إيديولوجية جد متقاربة بين أطروحة اشتراكية ديمقراطية، وأخرى ليبرالية بنفحة اجتماعية.

هذه التحولات، يمكن الوقوف سريعا على بعض إرهاصاتها ومؤشراتها، في الملاحظات التالية:

أولا: انبثاق ارهاصات حزبية غربية جديدة، تبحث عن الانتعاش بعيدا عن التقاطب الرئيسي: (يمين /يسار)، اللذان شكلا طرفي معادلة التناوب السياسي، كما طبع الممارسة الحكومية والانتخابية للديمقراطيات الغربية منذ عقود، وذلك من خلال ظهور قوى سياسية بملامح إيديولوجية غامضة، تحمل حزمة من التوجهات البيئية والشعبوية والشبابوية، وتستطيع تدبير استراتيجيات انتخابية مفاجئة عبر الانفتاح على تقاليد الحركات الاجتماعية وقدرتها على الاحتجاج والتعبئة، للتعبير عن مقاومة ورفض كل المؤسسات التقليدية “الفاسدة” و”المحافظة” و”الشائخة”.

ثانيا: بروز مُلاحَظ لحساسية يسارية حديثة، تحمل نبرة جديدة وأجوبة جريئة، معتمدة على جيل من القيادات الشابة، وعلى استثمار أمثل لوسائط التواصل الاجتماعي، مع تكريس خطاب نقدي حاد في مواجهة النخب السائدة وسياساتها المستلهمة من مؤسسات العولمة المالية.

ثالثا: وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، كزعيم شعبوي غير مسبوق، على خلفية هجوم حاد على  المؤسسة “الحاكمة” (Establishment) ، وعلى نخب “واشنطن”، وهو ما شكل عنصر ارتكاز مركزي لخطابه الانتخابي ومشروعه السياسي.

رابعا: الحضور التنافسي القوي لقيادات شعبوية تنتمي إلى اليمين المتطرف، داخل مناخ الحملات الانتخابية الرئاسية القريبة في أكثر من بلد أوروبي، بخطابات هوياتية مغرقة في الوطنية الشوفينية وبمشروع اقتصادي حمائي، وبرؤية معادية لأوروبا السياسية ولنخب “بروكسيل”، وذلك انطلاقا من إعلان مبدئي حاسم للتموقع خارج “السيستيم” وخارج النخب السياسية “المهيمنة”، في مواجهة مرشحي السلطة من اليمين واليسار “التقليديين”.

خامسا: التحول المفاجئ لمقولة مناهضة “النسق السياسي”، التي لم تعد حكرا على خطاب يسار اليسار أو اليمين المتطرف، بل أصبح ادعاء مناهضة الدولة العميقة  (Anti-Establishment)حجة انتخابية مطلوبة حتى لدى مرشحي عائلات سياسية تقليدية (فرانسوا فيون مثلا)، الذين اختاروا مواجهة مفتوحة مع بنيات مركزية داخل النظام السياسي (القضاء، الإعلام..)، كل هذا في سياق أصبحت فيه كلمة “النخبة”، كما يلاحظ “جاك أتالي” بمثابة شتيمة.

يبدو الخطاب السياسي الناهض في الغرب، بمرجعياته المختلفة سواء الشعبوية اليمينية منها أو ذات الخلفية اليسارية، ناطقا باسم الشعب في مواجهة المؤسسات، وتعبيرا مباشرا عن المجتمع العميق بعيدا عن وساطة النخب المتواطئة، لكنه في النهاية لا يعمل – كما لاحظ عزمي بشارة – سوى على تفجير ثنائية الديمقراطية الليبرالية، ومواجهة قيم الليبرالية والحداثة بآليات الديمقراطية والانتخابات.

أجل، توجد الديمقراطية في خطر مؤكد، لا يوازيه في الدرجة إلا ما وقع من نزوح متطرف للعالم في ثلاثينات القرن الماضي من خلال الظاهرتين النازية والفاشية، لكن ما يحدث من واقع  “البريكزيت” إلى احتمال “لوبن”، مرورا بكابوس “ترامب”، يعني كذلك أن الديمقراطية محتاجة إلى الدفاع عن نفسها وتصحيح اختلالاتها، وضمن ذلك توجد بالتأكيد الحاجة إلى إعادة الاعتبار للسياسة في مواجهة الاقتصاد والمال، ولثقافة التناوب وإرادة الشعوب في مواجهة إملاءات السوق والهيمنة التقنوـ إدارية والبنيات الموازية ومركبات المصالح، فضلا عن الحاجة، كذلك، إلى إعادة تعريف النخبة السياسية كقناة للتعبير الحي والمستقل عن طموحات المجتمع، بعيدا عن حصر وظيفتها في مهام المناولة لفائدة دوائر السلطة العميقة أو عوالم الاقتصاد المالي، أو هما معا في تواطئهما القاتل، والذي يعد سببا مباشرا في الكفر بالديمقراطية، والتمهيد بالتبعية لنجاح بدائلها القليلة: الشعبوية أو الإرهاب .

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نهاية الدولة العميقة نهاية الدولة العميقة



GMT 09:40 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

فعول، فاعلاتن، مستفعلن.. و»تفعيل» !

GMT 06:51 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

من يسار ويمين إلى قوميين وشعبويين

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 06:13 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

خطة حقوق الإنسان: السياق ضد النص

GMT 07:07 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

المهنة: مكتب دراسات

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 12:59 2020 السبت ,26 كانون الأول / ديسمبر

الكمامة القماش لا تحمي من عدوى "كورونا" تعرف على السبب

GMT 10:41 2015 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

صور لمقبرة "توت عنخ آمون" تعرض بالألوان للمرة الأولى

GMT 06:04 2016 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

شاب مريض نفسي ينتحر بطريقة مروعة في الدار البيضاء

GMT 01:44 2017 الإثنين ,23 كانون الثاني / يناير

دشني مراد قصة نجاح بعد بماضٍ أليم

GMT 23:52 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الإعلامية بوسي شلبي تؤكد تعاطفها مع الشيخ صالح عبد الله كامل

GMT 21:24 2014 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

محار ملزمي بالثوم

GMT 09:27 2019 السبت ,07 كانون الأول / ديسمبر

العاهل المغربي يلغي لقاء وزير الخارجية الأميركي

GMT 07:57 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

رحيل الفنان المصري محمد خيري بعد أزمة صحّية عن 77 عامًا

GMT 08:01 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

"بلاك آرمي" تدعو لإبعاد الانتهازيين عن الجيش الملكي

GMT 15:55 2018 السبت ,15 كانون الأول / ديسمبر

"الفيصلية الرياض" يحصد جائزة أفضل فندق فاخر لعام 2018

GMT 03:39 2018 السبت ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مواليد برج العقرب يمتلكون أسلوبًا تحليليًّا عميقًا

GMT 03:51 2018 الثلاثاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

خطيبة خاشقجي توضع تحت حماية الشرطة التركية

GMT 11:04 2018 الأربعاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

إنابل بطلًا لسباق "قوس النصر" بقيادة ديتوري
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya