“النسر وعيون المدينة”

“النسر وعيون المدينة”

المغرب اليوم -

“النسر وعيون المدينة”

جمال بودومة

في مستهل التسعينيات، كنا ندرس في “المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي” وسط الرباط، قبل أن ينتقل إلى “مدينة العرفان”، كانت الأقسام الدراسية موزعة بين الطابق الرابع من مسرح محمد الخامس وقصبة الاوداية، والسكن الوحيد المتاح للطلاب هو “الحي الجامعي مولاي اسماعيل” في حي المحيط، وهو في الأصل ثكنة عسكرية، اعتقل فيها انقلابيو 71 قبل أن يتم إعدامهم. نحن لم ننقلب على أحد، ومع ذلك وجدنا أنفسنا في الثكنة. الحي يتوفر على أجنحة للأولاد واُخرى للبنات، كل جناح مقسم إلى “ضورتوارات” بأسرة متراكبة. كأنك انخرطت في الجندية. كانت الأحياء الجامعية في “مدينة العرفان” تبدو لنا مثل إقامات بخمسة نجوم. كنا نحسد سكان “السويسي 1″ و”السويسي 2″ و”كلية علوم التربية” وغيرها من الإقامات التي توفر للطلاب غرفا حقيقية، وتتوفر على مطاعم محترمة، خصوصا أن “مولاي اسماعيل” كان يقدم وجبات حقيرة، متخمة “بالصودا”، لدرجة يصعب معها أن تفرق بين العدس واللحم والبطاطا والحريرة، كلها بالمذاق نفسه. “مدينة العرفان” وإقاماتها الجامعية بعيدة وليست في المتناول، حتى السكن في “مولاي اسماعيل” لم يكن مضمونا، الإدارة لا تقبل إلا عددا محدودا من طلاب المعهد. من لم يحالفهم الحظ يفتشون عن غرفة مهترئة في المدينة العتيقة، في “الجزا” أو “بوقرون”. لا أعرف كيف اكتشفنا أن هناك فندقا يقترح غرفا للإيجار الشهري بأثمان معقولة، غير بعيد عن حجرات الدرس. اسمه فندق “الاوداية”، لكن الجميع يسميه “فندق شارلو”. “شارلو” كان لقب موظف الاستقبالات، الذي لا يمكن أن تفهم ما يقوله، بسبب إعاقة تشبه الخرس، أي شيء تطلبه منه يحرك راْسه ذات اليمين وذات اليسار وهو يردد: “لآ لا لا”… بمجرد ما تضع قطعة نقدية في يده تتحول الـ”لا” إلى “نعم”!
سكنا لسنوات في ذلك النزل المجاور للأموات والمهمشين. فندق بلا نجوم بجوار مقبرة وسجن وكوميسارية وكثير من ذوي السحنات المشبوهة. على بعد خطوات من المحيط.
هناك، في فندق “شارلو” التقيت بالمسرحي العراقي بدري حسون فريد، الذي غادر الحياة الأسبوع الماضي في أربيل.
كان شخصا مهيبا، بقبعته ومعطفه واعتداده بنفسه. كانت غرفته جنب غرفتي، وكان يفضل أن يترك الباب مفتوحا. كلما مررت ألمحه يكتب أو يتدرب على أحد الأدوار، بصوته الجهوري الواثق. كنت أتساءل من أين يأتي بكل هذه الحيوية؟ رجل تجاوز السبعين لا يتوقف عن العمل. من حين لآخر ينزل إلى البهو، حيث يجلس لوحده في زاوية يدخن الغليون ويحتسي القهوة ويتأمل سحائب الدخان. لم أقتنع يوما أن بدري حسون فريد شخصية حقيقية. كان يبدو لي مثل هارب من إحدى روايات جبرا إبراهيم جبرا أو حنا مينا. الحقيقة أنه كان هاربا من بلد مدمر يستعد للأسوأ. كان صدام حسين قد أقدم على مغامرته المجنونة بغزو الكويت، ودمرت قوات التحالف جيشه، ليدخل العراق سنوات الحصار الطويلة. لم يكن الناس يجدون الطعام والدواء، لذلك كان الجميع يفتش عن بلدان أقل قسوة. لست متأكدا إذا ما كان الراحل اختار البلد المناسب، لكن الأكيد أنه لم يكن مرتاحا ماديا، ولم يستطع أن يعثر على شغل يناسب كفاءته ويضمن له العيش الكريم. الرجل من جيل الرواد في المسرح العراقي، تخرج من قسم الفنون المسرحية في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1955، وكان الأول على دفعته، ثم أكمل دراساته العليا في شيكاغو قبل أن يعود إلى بلاده مدرسا ومخرجا وممثلا. عندما وصل إلى المغرب كان يجر خلفه مسارا طويلا على الخشبة وبين فصول التدريس، لكننا لم نحسن استقباله. كان يريد الاستقرار في الرباط، وظل يفتش عن وضع قار، ولكنه لم يعثر سوى على منصب أستاذ بالقطعة في المعهد العالي للمسرح، فضلا عن أدوار في بعض المسلسلات. لم نمحه ما يستحق، ما عدا “حب الطلبة والفنانين”، كما كتب الأستاذ أحمد مسعاية في نعيه، هو الذي كان وقتها مديرا للمعهد العالي للمسرح وصنع المستحيل كي يحسن وضعه دون جدوى.
كان في صوته شجن دفين. مازلت أتذكر طاقته المدهشة في مسرحية “المصطبة” التي أداها لوحده على الخشبة بإخراج تلميذه جواد الأسدي. ذات يوم في بهو فندق شارلو حكى لي بكثير من النوستالجيا عن مسلسل كان يعرضه التلفزيون العراقي في مستهل الثمانينيّات، وعرف نجاحا كبيرا في كل دول الخليج. اليوم عرفت أنه بالنسبة إلى كثير مِن العراقيين، الذي مات الأسبوع الماضي هو “إسماعيل الجلبي”، الذي صنع سعادتهم في مسلسل “النسر وعيون المدينة”، أيّام كان الفن فنا والعراق عراقا

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

“النسر وعيون المدينة” “النسر وعيون المدينة”



GMT 08:07 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أخبار مهمة أمام القارئ

GMT 08:04 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الإمارات والأردن.. توافق لأمن المنطقة

GMT 08:01 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أسوأ عقاب أوروبى لأردوغان

GMT 07:59 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لهذا تقود أمريكا العالم!

GMT 07:57 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كسر الحلقة المقفلة في اليمن

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 09:38 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 11:48 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 12:08 2019 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

كيف نحمي أطفالنا من أخطار الانترنت ؟

GMT 10:51 2020 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

المحكمة تسقط التهمة عن سمية الخشاب

GMT 19:22 2019 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تحديث واتساب الجديد يدعم ثلاث ميزات جديدة

GMT 20:55 2018 الأربعاء ,14 آذار/ مارس

أجمل إطلالات ربيعية للمحجبات لربيع وصيف 2018

GMT 03:15 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

الضياعُ في عينيّ رجل الجبل *

GMT 10:42 2020 الأربعاء ,12 شباط / فبراير

طهران تنفي نية الرئيس حسن روحاني الاستقالة

GMT 13:08 2020 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

وفاة الكاتب محمد حسن خليفة في معرض الكتاب

GMT 20:27 2019 الجمعة ,25 تشرين الأول / أكتوبر

ماسك العسل والجزر لبشرة خالية من العيوب

GMT 02:54 2019 الأحد ,21 تموز / يوليو

طريقة تحضير الدجاج على الطريقة الايطالية

GMT 22:16 2019 الإثنين ,08 تموز / يوليو

لعبة ROME: Total War – Barbarian Invasion متاحة على أندرويد

GMT 00:45 2019 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

أجمل وأفضل 10 أماكن سياحية عند السفر إلى السويد

GMT 01:55 2018 الجمعة ,28 كانون الأول / ديسمبر

ميرنا وليد تُؤكّد على أنّ "قيد عائلي" مكتوبٌ بحرفية عالية

GMT 10:55 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

اللون الأسود خياركِ الأول لأجمل عبايات مخمل شتاء 2019
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
Libya Today News
Libya Today
Salah Eldain Street
Hay Al-Zouhour
Tripoli
Tripoli, Tripoli District, 218 Libya