«المعربون» في الأرض

«المعربون» في الأرض!

المغرب اليوم -

«المعربون» في الأرض

بقلم - جمال بودومة

نحن فئران التجارب التي اختبروا فيها مخطط التعريب، واكتشفوا بعد أربعين عاما أن الوصفة فاشلة ولا تصلح. نحن «المعربون» في الأرض، ضحك علينا إخوتنا الكبار، عندما رأونا ندرس «الحوجلة» و»التحاكي» و»الكتل المعلمة» و»تعكر ماء الجير»، و»المشتقات» و»الدوال»، ولا نفرق بين «الأكسون غراف» و»الأكسون إيغي»، وضحكت علينا الدولة وحزب «الاستقلال»، حين جعلونا ندرس بالعربية وسجلوا أبناءهم في البعثات الأجنبية كي يتعلموا بلغات أخرى، وعندما أكملوا دراساتهم في فرنسا وكندا وإنجلترا والولايات المتحدة، أصبحوا يتحكمون في مصيرنا ومستقبل أبنائنا بعربيتهم الركيكة، التي تفضح احتيالهم كلما صعدوا إلى منصة أو تحدثوا في مناسبة رسمية.

نحن جيل التعريب الفاشل، بعضنا افلت بأعجوبة من الفخ، وتمكن من إكمال مشواره الدراسي والحصول على شهادة وشغل، وآخرون ضيعوا البوصلة والمستقبل بين مدرجات الجامعة، بسبب لغة التدريس، وضحالة المناهج، وإفلاس التعليم العمومي.

أربعة عقود ونحن ندرس العلوم بالعربية في الثانوي، وعندما نصل إلى الجامعة نجد الأساتذة يتحدثون بالفرنسية، ولا نفهم من رمانا في هذه الرواية الكافكاوية ولماذا. يختفي «جذر المربع» و»الشلجم» و»الهذلول» و»الكروموزومات» و»الأحماض الأمينية»… ويحل محلها معجم كامل من المصطلحات الفرنسية المعقدة، التي تجعل مواصلة التكوين مهمة مستحيلة. فئة قليلة استطاعت التأقلم، فيما انقرض آلاف الطلاب من كليات العلوم، بسبب هذا التغير اللغوي الحاد، كما انقرض الديناصور بسبب التغيرات المناخية الجذرية. الأكثر حظا، يكررون السنة، ويبذلون جهدا استثنائيا من أجل تدارك النقص في الفرنسية، قبل أن يتمكنوا من متابعة إيقاع الدروس. الراديكاليون يقطعون دابر الفتنة، وينقلون ملفهم إلى كلية الآداب لدراسة التاريخ والجغرافيا أو الأدب العربي أو الدراسات الإسلامية والشريعة، بدل الدخول في مغامرة غير محسوبة العواقب.  لقد تفاقمت مشكلة التعليم في المغرب حتى تحولت إلى ورم، كلما لمسته يئن المريض ويصرخ، وليست الأحزاب السياسية من سيحل معضلة المدرسة العمومية، بكل تأكيد، لأنها هي نفسها تحتاج إلى من يعالجها، والمريض لا يمكن أن يتحول إلى طبيب. ولا غرابة أن يغلب التخبط على نقاش «مشروع القانون الإطار للتربية والتعليم تحت قبة البرلمان، سواء في صفوف الأغلبية أو المعارضة، وأن تأخذ موقفا في الصباح ونقيضه في المساء. التعليم أكثر جدية من أن نترك مصيره بيد سياسيين سطحيين، لا تهمهم إلا مصالحهم الضيقة، بعضهم لا يملك حتى شهادة الباكالوريا، ومعظمهم لا يعنيه الموضوع أصلا، لأن أبناءه يدرسون في القطاع الخاص ومدارس البعثة، وبإمكاننا أن نصدق من يناقشون مصير المدرسة، تحت قبة البرلمان وفي الاجتماعات الحكومية، في حالة واحدة: إذا صدر قرار يجبر البرلمانيين والوزراء والمسؤولين السامين، على تسجيل أبنائهم في المدرسة العمومية مع بقية أبناء الشعب، حينها فقط يمكن أن نأخذ كلامهم على محل الجد ونصدق أن ما يحركهم هو الغيرة على مستقبل الأجيال، وليس رهانات سياسية تافهة، وصراعات حزبية ضيقة، وشعارات أكل عليها الدهر وشرب!  الخفة التي أظهرها حزب «الاستقلال» و»العدالة والتنمية» في التعامل مع البنود المتعلقة بتدريس المواد العلمية والتقنية في السلك الثانوي تلخص كل شيء. كلاهما أظهر تخبطا واضحا في موقفه. في البداية، أيدوا المادتين 2 و31، (وهدفهما عمليا، بعيدا عن خدعة «التناوب اللغوي»، هو التخلي عن العربية لفائدة الفرنسية في تدريس المواد العلمية والتقنية في السلك الثانوي) قبل أن يتراجعوا تحت ضغط قواعدهم وثقل الإيديولوجية التي تؤطر ممارستهم السياسية، بمجرد ما تحولت المسألة إلى قضية رأي عام.

نظريا، يفترض أن هؤلاء السياسيين يمثلون الشعب في الحكومة والبرلمان، لأنهم وصلوا إلى مناصبهم عن طريق صناديق الاقتراع، لكن الجميع يعرف أن القضية أكثر تعقيدا، وأن الانتخابات في المغرب لا تعبر عن رأي المواطن، بقدر ما تعكس التوازن بين مراكز النفوذ وأصحاب المصالح، وإذا كان لا بد  أن يقرر الشعب في لغة التدريس، فمن الأجدر تنظيم استفتاء شعبي، يُسأل فيه المغاربة عن رأيهم بشكل مباشر. أما الطبقة السياسية في تشكيلتها الراهنة، فلا تبدو مؤهلة للبت في القضايا المصيرية!

لنفترض جدلا أن دراسة العلوم بالعربية خيار غير مفيد، لأنه يعزل الطلاب عن مواكبة التطورات العلمية المتسارعة، باعتبار أن العلم الحديث لا يتحدث لغة الضاد. في هذه الحالة، من الحكمة اختيار الإنجليزية لغة للتدريس بدل العربية والفرنسية، مادمنا نعرف أن لغة شكسبير هي الأكثر انتشارا، والأسرع استيعابا للتطورات العلمية الحديثة، والفرنسيون أنفسهم مجبرون على تعلم الإنجليزية إذا أرادوا مواكبة التطورات العلمية في مختلف المجالات. الأمم العظيمة هي التي تخطط لمستقبلها البعيد، وليس فقط، على المدى المنظور. العودة إلى «فرنسة التعليم»، إرضاء للطبقة الفرونكوفونية التي بسطت نفوذها على كل شي، وتريد أن تغلق قوس التعريب. الحقيقة أن فرنسا لم تغادر المغرب، رغم أكثر من ستين عاما على الاستقلال، لأسباب يطول شرحها، ولن تغادره في المستقبل المنظور. من يسيطر اليوم على مفاصل الاقتصاد والسياسة في المغرب هم ورثة المعمرين، يتصرفون مثلهم تماما، ويعتبرون بقية الشعب من «الأهالي»، الفرق الوحيد أنهم مغاربة ومن سبقهم فرنسيون، ولا غرابة أن يفصَّل القانون الإطار للتربية والتعليم على مقاساهم، في وقت تحولت فيه المدرسة العمومية إلى مصنع لتفريخ أجيال من «الضباع»، كما ظل المرحوم محمد جسوس يردد، دون أن ينتبه إلى تحذيراته أحد.  عندما نقف على الوضع المزري الذي وصل إليه التعليم في المغرب، يبدو الجدل حول لغة التدريس مجرد «نكاح ذباب»، على حد تعبير الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«المعربون» في الأرض «المعربون» في الأرض



GMT 15:02 2020 الأحد ,09 شباط / فبراير

أنصار اسرائيل في اميركا يهاجمون المسلمين

GMT 16:11 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

من يفوز بالرئاسة الاميركية هذه المرة

GMT 17:21 2020 الجمعة ,07 شباط / فبراير

ايران وحادث الطائرة الاوكرانية

GMT 14:46 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

من دونالد ترامب الى اسرائيل

GMT 17:46 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخبار مهمة للقارئ العربي - ٢

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 12:09 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 21:30 2018 الإثنين ,16 تموز / يوليو

"تحليل ثوري" يكشف "العمر المتبقي" للإنسان

GMT 11:45 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

ناشطون يبحثون عن الطائر «ياسمينة» في سورية

GMT 01:50 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

نساء مغربيات يفضحن قصص تحرش داخل حقول "فراولة"

GMT 08:40 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

أحمد عز الفنان والإنسان

GMT 06:25 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

"ديور" تطرح مجموعة مجوهراتها الجديدة بروح قصر فرساي

GMT 04:44 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

المنتخب المغربي يُشارك في الطواف الدولي في الجزائر

GMT 09:05 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

محمد أوجار يكشف عن الوسائل البديلة لفض المنازعات

GMT 20:32 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

أخنوش يُراهن الحصول على رئاسة الحكومة خلال انتخابات 2021
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya