اعتراف في زمن الجحود

اعتراف في زمن الجحود

المغرب اليوم -

اعتراف في زمن الجحود

بقلم - جمال بودومة

إذا تأملنا المشهد الأدبي المغربي عن كثب، نجد أن الإقصاء خصوصية محلية، والوقاحة رياضة شعبية، والنرجسية خصلة إبداعية… ورغم أن عدد القراء ضئيل، وحاضر الكتاب مؤلم ومستقبله مظلم، فإن الكتّاب المكرسين يرفعون الشعار نفسه: «أنا وحدي مضوي البلاد»، فيما يخوض مجموعة من المبدعين الصاعدين حرب عصابات ضد بعضهم البعض، وقلة قليلة خلدت إلى الصمت تراقب ما يحدث بامتعاض. البعض يصرف جهده الرئيس في عرقلة ظهور الآخرين في الأمسيات واللقاءات والمجلات والتلفزيون ودور النشر، وآخرون حولوا الثقافة إلى صفقات مشبوهة مع الخليجيين، والبعض لا يكفيه التطاول على الكتاب الأحياء كي يجلب إليه الانتباه، فيلجأ إلى التعريض بالموتى وطمس ذكراهم. لحسن الحظ أن الكاتب مولاي أحمد المديني يصدر، بين الفينة والأخرى، «تكذيبا» من المكتبة الوطنية على شكل لقاء أدبي يثبت أن الاعتراف ممكن في زمن الجحود وأن النسيان ليس قدرا مغربيا. بعد أحمد المجاطي ومحمد زفزاف، اختار صاحب «ممر الصفصاف» أن يستعيد ذكرى عبدالمجيد بنجلون، «الكاتب الوطني»، كما جاء في عنوان المؤلف الجماعي الذي خصص لصاحب «في الطفولة». المبادرة تستحق التصفيق، لأنها انتصار لثقافة الاعتراف على الجحود واستحضار لأشخاص لا يليق بهم النسيان.

عبدالمجيد بنجلون كاتب استثنائي، وُلد في الدار البيضاء، ورحل إلى إنجلترا في سن الخامسة. كان والده تاجر نسيج، قادته تجارته إلى الاستقرار في مانشستر. فقد أمه مبكرا، وعاش صدمة ثقافية حادة حين قررت أسرته العودة إلى فاس، بعد أربع سنوات عند الإنجليز. درس في الكتّاب قبل أن يلتحق بالقرويين، ثم يسافر إلى القاهرة التي عاش فيها عقدين من الزمان، درس في جامعتها وكتب في صحافتها، وساهم في تأسيس «مكتب المغرب العربي» وشغل أمانته العامة، وكان من بين من ساهموا في تهريب الأمير عبدالكريم الخطابي من السفينة التي كانت تقله من جزيرة «لا ريينيون»، إلى جنوب فرنسا وتوقفت في ميناء السويس بمصر… كثير ممن درسوا الآداب في الثمانينيات والتسعينيات يتذكرون نصوص عبدالمجيد بنجلون التي كانت مقررة في المناهج التعليمية، «وادي الدماء» و»في الطفولة» على الخصوص، ولعل بعضهم يحمل ذكريات سيئة عن هذه المؤلفات لأنهم قرؤوها مجبرين. حين تصبح المطالعة واجبا مدرسيا تفقد كثيرا من جاذبيتها. نحن الذين درسنا في الشعب العلمية، وربطتنا علاقة غير رسمية بالأدب، نملك ذكريات اجمل مع عبدالمجيد بنجلون، لأن قراءتنا كانت حرة، بعيدا عن الإكراهات الأكاديمية. إذا كانت القراءة بمثابة «الزوجة» عند طالب الآداب، فإنها «عشيقة» عند من يدرس العلوم! عشقنا كتابات عبدالمجيد بنجلون، لأنه مختلف عن بقية الأدباء المغاربة. هناك عفوية وصدق في أسلوبه الأدبي، وتفرد في مساره الحياتي. مغربي عاش صباه في إنجلترا إبان عشرينيات القرن الماضي، وقرر أن يضع طفولته في كتاب. ترأس تحرير «العلم»، أقدم جريدة مغربية، واشتغل في السلك الدبلوماسي، قبل أن يتفرغ للصحافة والكتابة. مع مبدعين معدودين على رؤوس الأصابع، جعلنا بنجلون نشعر بالفخر لأننا أيضا نملك أدباء يمكن أن نضعهم جنب طه حسين وإحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وسهيل إدريس… وسيبقى «في الطفولة» – مع «الخبز الحافي»- من أجمل ما كُتب في السيرة الذاتية مغربيا. أوتوبيوغرافيا متحررة من قيود زمنها، يحكي فيها الكاتب طفولته بين مانشستر وفاس، بسلاسة قلما نصادفها. النصوص المكتوبة وقتها كانت عصية على الهضم، لغتها مقعرة أو متخمة بالمجاز أو «الفذلكات» البلاغية أو غارقة في الوعظ الديني والأخلاقي. قوة «في الطفولة» أنها تجعلك تسافر في مغرب العشرينيات والثلاثينيات برؤية طفل أوروبي من أصول مغربية، في لغة بسيطة وأسلوب سهل ممتنع.


 
تدور الأحداث بين فاس ومانشستر، حيث كانت تعيش جالية مغربية مهمة في مستهل القرن العشرين، غالبيتهم من الفاسيين الذين يشتغلون في تجارة النسيج. الطفل يتحدث عما يحدث حوله بكثير من السذاجة، مما يضفي على السرد مُسحة ساخرة، ويمنحه جرعة من التشويق والمتعة. المغرب اسمه «مراكش» والحياة في إنجلترا هادئة ومرتبة، بخلاف ما عليه الأمر في «مراكش». عكس الإنجليز، «المراكشيون» يتحدثون بصوت مرتفع، ويحركون أيديهم كأنهم يتشاجرون. يكتشف الصبي خشونة الحياة في مجتمع محافظ، تسيطر عليه التقاليد العتيقة والنزعة الذكورية. لكن عبدالمجيد لا يتمرد على الأسرة والمجتمع، كما صنع إدريس في «الماضي البسيط»، رواية إدريس الشرايبي التي تقدم المغرب القديم نفسه، بحنق أكبر. بنجلون والشرايبي يشتركان في نقد التقاليد البالية، التي كانت تعيق تطور المغرب القديم، بنبرتين مختلفتين.

يحضرني نص في أحد مقررات «قراءتي» الابتدائية، مقتبس من سيرة بنجلون، يسلط الضوء على العلاقة بين البطل وأخته. البنت التي أخرجت من بيئتها ولم تجد مكانا بين الأولاد، ثم مرضت وماتت قبل الأوان. بخلاف الصبي، لم تستطع الطفلة «الإنجليزية» الاندماج في المجتمع الذكوري الذي أعيدت قسرا إليه. في الوقت الذي وجد الصبي مكانه بسهولة وسط أقرانه وأبناء عمومته. الأخت انطوت على نفسها ودخلت في عزلة، إلى أن أُصيبت بمرض فتاك وذهبت إلى السماء. أحد المقاطع المؤثرة في الرواية هي لقطة الطفل وهو يعانق أخته الميتة. بعد العناق ينهض شخصا آخر تماما، عركته الحياة. عبدالمجيد بنجلون جعلنا نفهم مبكرا أن المرأة كائن هش وثمين، إذا لم نعرف كيف نتعامل معه سنفقده إلى الأبد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اعتراف في زمن الجحود اعتراف في زمن الجحود



GMT 15:02 2020 الأحد ,09 شباط / فبراير

أنصار اسرائيل في اميركا يهاجمون المسلمين

GMT 16:11 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

من يفوز بالرئاسة الاميركية هذه المرة

GMT 17:21 2020 الجمعة ,07 شباط / فبراير

ايران وحادث الطائرة الاوكرانية

GMT 14:46 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

من دونالد ترامب الى اسرائيل

GMT 17:46 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخبار مهمة للقارئ العربي - ٢

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 19:03 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج السرطان

GMT 04:05 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على طريقة صنع "مزيل العرق" بدون مواد كيميائية

GMT 18:58 2018 الإثنين ,30 إبريل / نيسان

شالكة يقرر استبعاد ماير حتى نهاية الموسم الجاري

GMT 05:53 2018 الجمعة ,23 آذار/ مارس

أجمل موديلات خواتم الخطوبة لربيع وصيف 2018

GMT 17:08 2018 الثلاثاء ,06 شباط / فبراير

حقيقة وجود مواد كيميائية داخل ''شاي'' في المغرب

GMT 04:34 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

بيّنوا أنّ الآلات تمتلك الأفضلية في الخضوع لمساءلة البشر

GMT 10:31 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

الاتجاهات في عام 2018 تحمل التكنولوجيا إلى مناطق مخيفة

GMT 18:01 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

جمعية سلا يُشارك في كأس القارات بعد فوزه باللقب الأفريقي

GMT 02:03 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

محلات "DISTINGUE" تكشف عن مجموعة جديدة من الفساتين السواريه

GMT 21:56 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

هشام اللويسي مرشح لمهمة مدرب مساعد في الاتحاد البيضاوي

GMT 21:25 2017 الثلاثاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

جواد الياميق يعود إلى تدريبات الرجاء بعد 10 أيام

GMT 11:07 2015 الجمعة ,03 إبريل / نيسان

السطو على محل تجاري في شارع بلجيكا طنجة

GMT 17:07 2017 الجمعة ,06 كانون الثاني / يناير

انخفاض متوقع لأسعار المنازل في كوريا الجنوبية عام 2017
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya