حكايات من أرشيف الاستبداد

حكايات من أرشيف الاستبداد

المغرب اليوم -

حكايات من أرشيف الاستبداد

بقلم - توفيق بو عشرين

يحكي الروائي المصري علاء الأسواني واقعة طريفة ومعبرة في الآن نفسه، وقعت في ستينات القرن الماضي بين جمال عبد الناصر وجماهيره. يقول الطبيب والروائي المصري: «في يوم 28 شتنبر 1961، حدث انقلاب عسكري في سوريا أدى إلى انفصالها عن الجمهورية العربية المتحدة، التي كانت تضمها مع مصر. في اليوم التالي، ألقى جمال عبد الناصر خطابا أمام مئات الألوف من المصريين، استعرض فيه ما اعتبره مؤامرة استعمارية على الوحدة بين مصر وسوريا، ثم قال بحماس: ‘‘وقد أصدرت أوامري للقوات المسلحة بالتحرك إلى سوريا فورا للقضاء على المؤامرة’’. هللت الجماهير بشدة لقرار الزعيم، وظلت تهتف باسمه عدة دقائق، لكنه استطرد قائلا: ‘‘ثم عدت وسألت نفسي: هل يقتل العربي أخاه العربي؟ لن أسمح بذلك أبدا، فأصدرت أمرا إلى القوات المسلحة بالعودة فورا إلى القاهرة’’.

وهنا، مرة أخرى، هللت الجماهير فرحا، وهتفت باسم الزعيم بحماس. كلما شاهدت تسجيل هذه الخطبة -يقول الأسواني- تساءلت: هؤلاء المهللون ماذا كانوا يريدون بالضبط؟ لقد هللوا بالحماس نفسه لقرارين متناقضين في زمن لا يتعدى دقائق. الإجابة أنهم كانوا يحبون الزعيم إلى درجة أنهم يؤيدونه دائما دون تفكير مهما تكن قراراته».

العجيب أنه مباشرة بعد وفاة عبد الناصر، وكان مستبدا ذا شعبية كبيرة بسبب حرب السويس وتأميم القناة، وبمناسبة الدخول المدرسي الأول بعد وفاة الزعيم ومجيء أنور السادات إلى حكم مصر، وقف وزير التعليم المصري حائرا بشأن ما سيفعله بالمقررات الدراسية التي تمجد عبد الناصر، وتثني على كل قراراته، وهل للرئيس الجديد رأي خاص في تدريس المواد الدعائية القديمة؟ وما الحل الآن والرئيس الجديد بلا إنجازات، وهو بالكاد ورث الحكم عن سلفه؟ فماذا فعل الوزير «لحاس الكابا هذا»؟ عمد إلى حيلة للخروج من المأزق. ألغى المواد الدعائية في المقررات الدراسية المصرية، التي كانت تمجد عبد الناصر وثورته، ووضع مكانها كتابا رديئا للرئيس أنور السادات يتحدث عن الرئيس جمال عبد الناصر تحت عنوان: «يا ولدي هذا عمك جمال»، وبهذه الطريقة يرضي الرئيس الجديد لأن الكتاب كتابه، ويبقي شيئا من سيرة الرئيس الراحل، لأن الرئيس الجديد حديث عهد، أما سؤال: هل يجب إدخال مواد دعائية للحكام في مقررات الدراسة للتلاميذ؟ فهذا سؤال لا محل له من الإعراب في بلاد الفراعين وأخواتها في البلدان العربية.

في العام 1933، دار هذا الحوار بين الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني والفيلسوف الألماني إيميل لودفينغ. قال موسوليني: “أنا رئيس درجة أولى أحكم دولة درجة ثانية، وهتلر رئيس درجة ثانية يحكم دولة درجة أولى» (هذا لم يمنع موسوليني من التحالف مع هتلر لتقسيم النفوذ حول العالم)، وعندما سأل لودفينغ موسوليني إن كان يمكن للناس أن يحبوا الديكتاتور، أجاب بلا تردد: «شرط أن تخافه الجماهير في الوقت نفسه. الجماهير، مثل النساء، تحب الرجال الأقوياء». لما انهزم الفاشي الأول في روما أعدمه الإيطاليون بالرصاص، ومزقوا مجلدات خطبه الكثيرة، وسحبوا صوره وتماثيله من كل إيطاليا، وأصبحت نظريته الفاشية جزءا من التاريخ الأسود للإيطاليين.

مشكلة الاستبداد أنه مثل المخدرات، مع طول الاستعمال يقود إلى الإدمان، وتصبح الشعوب راضية به، بل ولا ترى لها وجودا ولا أمنا ولا راحة دون وجود مستبد فوق رؤوسها، بل إن العقل المريض للعرب والمسلمين جعلهم يخلقون أسطورة اسمها «المستبد العادل»، وهل يوجد مستبد عادل؟ في اللحظة التي يختار الحاكم، أي حاكم، أن يحكم وحده وبمفرده، بلا شريك ولا قيد ولا تعاقد ولا دستور ولا قانون، عندها يصبح بينه وبين العدل سور صيني عظيم، ومهما كانت بعض قرارات هذا المستبد العادل «صائبة»، أو في صالح الجمهور، فسرعان ما يسقط في قرارات ظالمة بل وكارثية، كما فعل صدام في غزو الكويت، والقذافي في تدمير الدولة في بلاده.

الشعوب العربية من كثرة عيشها في الاستبداد لقرون طويلة طبعت مع هذا النمط في الحكم، وأصبح الأمن مقدما عندها على الحرية، والخبز فوق المساواة، وسلامة النفس أولى من الزج بها في معارك التحرر والمساواة والديمقراطية. في المقابل، ركزت الشعوب على المشروع الفردي: الهجرة إلى أوروبا، والاعتناء بالأولاد، والاهتمام بجمع المال بكل الطرق، ثم السير بجانب الحائط.
النخب تعرف أن نمط الحكم الاستبدادي لا يقود إلا إلى التخلف والخراب والفساد، طال الزمن أم قصر، لكن جل النخب السياسية والفكرية والإعلامية والاقتصادية تخاف الجهر بالحقيقة، وعوض أن تكافح من أجل إزالة الاستبداد، تمعن في تبريره، وفي خلق ثقافة له وقاعدة اجتماعية تسنده، ومنها القول: إن الديمقراطية لا تصلح للعرب والأمازيغ والأكراد والمسلمين عامة، أو القول إن الديمقراطية تحتاج إلى درجة من التعليم ومن الدخل ومن التقدم المادي، فدعونا نوفر هذه القواعد كلها، وبعد ذلك نتحدث عن الديمقراطية، ومنها القول إن القاعدة الاجتماعية للبلدان العربية محافظة ومتخلفة، وأول ما ستفعله حين ستفتح لها صناديق الاقتراع، هو أنها ستصوت للأصوليين المتطرفين، والحل هو إغلاق الصندوق إلى أن تنحسر موجة الإسلام السياسي.
كلها مبررات وعلاجات لتسكين ألم الاستبداد، المسؤول الأول عن الجهل والفقر والأصوليات والتطرف، ببساطة لأنه يحكم بمنطق: «مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ»، كذلك كان فرعون.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حكايات من أرشيف الاستبداد حكايات من أرشيف الاستبداد



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:30 2021 الأحد ,03 كانون الثاني / يناير

الوفاق تُعطل قرار فرض رسوم على مبيعات الدولار "مؤقتًا"

GMT 06:29 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

اليك طريقة عمل افضل كريم مقشر للجسم

GMT 12:58 2018 الخميس ,27 أيلول / سبتمبر

جريمة قتل بشعة تثير ضجة في مدينة ورزازات

GMT 06:19 2017 الأحد ,24 كانون الأول / ديسمبر

منافسة مهمة بين 16 جوادًا على كأس أحمد بن راشد

GMT 21:01 2014 السبت ,16 آب / أغسطس

الطباهج الليبي

GMT 14:00 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ليال عبود في طرابلس للمشاركة في معرض "الأعراس"

GMT 05:22 2017 السبت ,20 أيار / مايو

رسائل من "التنف"

GMT 04:06 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

"ترنتي ميرور" تأمل في شراء مجموعة صحف جديدة في انجلترا

GMT 23:38 2016 الخميس ,22 أيلول / سبتمبر

5 أسباب صحية للنوم عارية

GMT 07:22 2016 الخميس ,11 آب / أغسطس

سلاح الجو الأميركي ينقصه 700 طيار حربي

GMT 19:28 2016 الثلاثاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

برج التنين.. قوي وحازم يجيد تأسيس المشاريع

GMT 06:53 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

هيرفي رونار "الثعلب" الذي أعاد للأسود شراستها

GMT 22:46 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

ثلاث شرطيات مغربيات يتعرضن للتحرش الجنسي

GMT 00:31 2017 الأربعاء ,13 أيلول / سبتمبر

تعرف على أسعار ومميزات هاتف "آيفون X " من آبل

GMT 03:25 2017 الثلاثاء ,28 شباط / فبراير

النجمة ريهام حجاج حبيبة عمرو سعد في "وضع أمني"

GMT 02:13 2017 الثلاثاء ,26 أيلول / سبتمبر

غطاء "أيفون 8" الزجاجي صعب الإصلاح حال تحطّمه

GMT 03:28 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

عرض لوحات مرعبة للفنّان إنسور في معرض الأكاديمية الملكية

GMT 03:18 2016 السبت ,09 كانون الثاني / يناير

أسماء الخمليشي تنشر صورة تعبر فيها عن رياضتها المفضلة

GMT 09:28 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن وبكين توقعان عقودًا تجارية بقيمة 253.4 مليار دولار
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya