مسكينة أنت أيتها الدولة

مسكينة أنت أيتها الدولة

المغرب اليوم -

مسكينة أنت أيتها الدولة

بقلم : توفيق بوعشرين

منذ أصدرت وزارة الداخلية بلاغا يمنع تظاهرة 20 يوليوز في الحسيمة، وهي تتعرض لموجة من السخرية في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يقارن الناس بين القانون الذي يسمح بالتظاهر والواقع الذي يمنعه، وبين خطاب الحكومة وممارساتها، وبين السماح لتظاهرة «ولد زروال» ضد بنكيران دون رخصة، قبيل الانتخابات بالدار البيضاء، وبين منع تظاهرة الحسيمة التي تطالب بالإفراج عن المعتقلين وتحسين أوضاع السكان الاقتصادية والاجتماعية.

كتب معلق في تدوينة على فايسبوك: «مسيرة ولد زروال مول الحولي، التي كانت بمباركة الداخلية، احترمت قوانين الدولة، وأسهمت في تطوير الديمقراطية… فيما مسيرة أبناء الشعب تعتبر تهديدا للأمن»، وأضاف آخر: «دولة ترخص لمسيرة ولد زروال، ودولة تمنع مسيرة الشرفاء بالحسيمة.. الله يحفظنا من الغباء».

يعز علي أي مواطن أن يرى الدولة تتعرض للسخرية، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع من يحكمونها، ويدمي قلب أي إنسان يعرف أهمية الدولة، ودورها الأخلاقي والسياسي والقانوني في تنظيم الاجتماع البشري، عندما يسمع شعارا يتردد في جل المسيرات الاحتجاجية بالمغرب، يقول: «بكلمة واحدة هاد الدولة فاسدة»، أو يقرأ التساؤل الاستنكاري لسوء الأوضاع الذي يقول: «واش هذي دولة؟!». الدولة غير محصورة في التعريف القانوني الذي يجعل مقوماتها ثلاثة: الأرض والشعب والسلطة السياسية.. الدولة أعمق من ذلك بكثير. الدولة كيان يسمح لكل فرد، بلا عائلة ولا قبيلة ولا طائفة ولا انتماء ديني ولا عصبة ولا جاه ولا مال، بالتمتع بالحقوق، والوفاء بالواجبات. الدولة عقار جغرافي مسجل في الأمم المتحدة، يعيش فوقه أناس يعتبرون أنفسهم شعبا له هوية وثقافة وانتماء ورغبة في العيش المشترك.

الدولة سلطة تحتكر استعمال العنف المشروع وجمع الضرائب، ومقابل هذا تضمن الأمن للمواطن، وسلامة التراب، والحاجيات الأساسية للبشر، من طعام وشراب وتعليم وتطبيب وحرية التعبير والتنقل والتجارة والعمل.. مقابل هذا الأمن من عدوان القريب والغريب، على السواء، يقبل المواطنون مقايضة حريتهم المطلقة بحرية مقيدة، عن طريق قانون أسهموا في وضعه، عبر ممثلين لهم صفة التمثيل الأمين للإرادة الشعبية… الدولة فكرة أخلاقية قبل أن تكون سلطة أو جيشا أو سلاحا أو إدارة أو موظفين، وهذه الدولة ليست ابنة الطبيعة.. إنها اختراع بشري يكبر ويصغر، يقوى ويضعف، يتمدد ويتقلص، حسب الظروف والأحوال، وحسب منسوب الشرعية داخل كيان الدولة… الدولة ليست فقط جيشا وعلما ومتحفا وشعارا ونشيدا ودستورا وطابعا وحاكما… إنها كذلك فضاء يحتضن الديناميات الاجتماعية، والتحولات السياسية، والتعبيرات الثقافية، ويتطور معها وبها، وإذا تحولت الدولة إلى كابح للتطور الاجتماعي، وعصا في عجلة التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي، فإنها تصير إما دولة مستبدة غارقة في التخلف، وإما دولة فاشلة غارقة في الاضطراب… لذلك، فإن الدولة الحديثة دولة غير خلدونية، أي إنها لا تخضع لقانون الصعود والنزول، لأنها تتجدد كل بضع سنوات. وعوض أن تنهار الدولة بكل مؤسساتها، أصبحت الحكومات والسياسات هي التي تنهار وتقوم أخرى مكانها، عبر قانون التناوب بين الأحزاب على الحكم، في انتخابات شفافة ونزيهة.

الخطر، كل الخطر، عندما لا يعود الأفراد يميزون بين الدولة والنظام، وبين الفرد والمؤسسة، وبين القرار والوظيفة. هنا يصبح كيان الدولة في خطر، وهذا ليس خطأ المواطنين، هو خطيئة الحاكمين، الذين يعتبرون الدولة سلاحا في يد القلة، لا مكتسبا من أجل المجتمع، فيتصرفون في الدولة ومؤسساتها كملاك لا كوكلاء، كأصحاب حق إلهي، لا كممثلين عن الشعب… في بلجيكا يقولون عن العاهل إنه ملك البلجيكيين، لا ملك بلجيكا، للتمييز بين الدولة ككيان مجرد ليست له علاقة بنمط معين للحكم، والمواطنين الذين اختاروا هم، وليس دولتهم، نمط الحكم الملكي.
كنت دائما أتعجب كيف أن الملك الحسن الثاني، بكل ما عرف عنه من احتكار للسلطة ومن استفراد بالحكم ومن استخفاف بالشعب، كان يسمي نفسه أمام الشعب بـ‘‘خادمك الأرضى هذا’’… وعيا منه بموقعه الطبيعي في الدولة، حتى وإن كان سلوكه يناقض قوله، لكنه كان يقول حقيقة ما يجب أن يكون لا واقع ما يحدث.

في العقد الأخير انهارت في العالم العربي خمس دول وهي: الصومال والعراق وسوريا واليمن وليبيا، وحل حكم الميلشيات محل حكم الدولة، وصار القتل عملة رائجة في الشوارع كل يوم، فيما دخلت دول أخرى إلى خانة الدول الفاشلة، مثل مصر والجزائر ومالي وجزر القمر وغيرها، وهذا الخطر لا يهدد الآخرين فقط، ولا يهدد البلدان حديثة العهد بالدولة فقط، بل يمس دولا لها تجارب عريقة في بناء الدولة، لكن الاستبداد والفساد وتراكم الأخطاء، وعدم القدرة على فهم التحولات الجارية في عالم سائل، جعلت هذه الكيانات تنكسر، وفتحت الباب لكل مغامر في الداخل والخارج، لذلك، على المغاربة جميعا، حكاما ومحكومين، أن يفكروا في دولتهم وكيفية رعايتها والحفاظ عليها، وعدم استعمالها أداة لتصفية الحسابات، صغيرة كانت أم كبيرة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسكينة أنت أيتها الدولة مسكينة أنت أيتها الدولة



GMT 08:07 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أخبار مهمة أمام القارئ

GMT 08:04 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الإمارات والأردن.. توافق لأمن المنطقة

GMT 08:01 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أسوأ عقاب أوروبى لأردوغان

GMT 07:59 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لهذا تقود أمريكا العالم!

GMT 07:57 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كسر الحلقة المقفلة في اليمن

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 09:38 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 11:48 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 12:08 2019 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

كيف نحمي أطفالنا من أخطار الانترنت ؟

GMT 10:51 2020 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

المحكمة تسقط التهمة عن سمية الخشاب

GMT 19:22 2019 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تحديث واتساب الجديد يدعم ثلاث ميزات جديدة

GMT 20:55 2018 الأربعاء ,14 آذار/ مارس

أجمل إطلالات ربيعية للمحجبات لربيع وصيف 2018

GMT 03:15 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

الضياعُ في عينيّ رجل الجبل *

GMT 10:42 2020 الأربعاء ,12 شباط / فبراير

طهران تنفي نية الرئيس حسن روحاني الاستقالة

GMT 13:08 2020 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

وفاة الكاتب محمد حسن خليفة في معرض الكتاب

GMT 20:27 2019 الجمعة ,25 تشرين الأول / أكتوبر

ماسك العسل والجزر لبشرة خالية من العيوب

GMT 02:54 2019 الأحد ,21 تموز / يوليو

طريقة تحضير الدجاج على الطريقة الايطالية

GMT 22:16 2019 الإثنين ,08 تموز / يوليو

لعبة ROME: Total War – Barbarian Invasion متاحة على أندرويد

GMT 00:45 2019 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

أجمل وأفضل 10 أماكن سياحية عند السفر إلى السويد

GMT 01:55 2018 الجمعة ,28 كانون الأول / ديسمبر

ميرنا وليد تُؤكّد على أنّ "قيد عائلي" مكتوبٌ بحرفية عالية

GMT 10:55 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

اللون الأسود خياركِ الأول لأجمل عبايات مخمل شتاء 2019
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
Libya Today News
Libya Today
Salah Eldain Street
Hay Al-Zouhour
Tripoli
Tripoli, Tripoli District, 218 Libya