أوروبا في مهب الريح

أوروبا في مهب الريح

المغرب اليوم -

أوروبا في مهب الريح

بقلم : خيرالله خيرالله

ليست فرنسا وحدها التي تبدو في حال يرثى لها. يكفي عرض تاريخ الشخصيات المشاركة في السباق الرئاسي فيها والفضائح المتتالية التي طاولت هؤلاء للتأكد من كون الحياة السياسية في فرنسا هزلت إلى حدّ كبير. أكثر من ذلك، كلّ مستقبل أوروبا يبدو في مهبّ الريح في حال استطاعت مارين لوبن، مرشّحة اليمين المتطرّف والمعـادية للفكـرة الأوروبية الـوصول إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية. ما بناه الجنرال شارل ديغول وآخرون، من أمثال المستشار الألماني كونراد أديناور، حجرا حجرا، ينهار هذه الأيام بعدما تبين أن جاك شيراك كان آخر الكبار الذين حكموا فرنسا.

بدأت تتبلور الفكرة الأوروبية إثر توقيع اتفاق رومـا في الخامس والعشرين من مارس من العام 1957. اجتمع الزعماء الأوروبيون في روما السبت الماضي للاحتفال بالذكرى، التي يمكن أن تتعرّض لهزّات قويّة في المستقبل القريب. كانت الخطوة الأولى لإقامة أوروبا الواحدة قبل ستين عاما بالتمام والكمال. قامت بموجب الاتفاق الموقّع في روما لإنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي هدفها توحيد الشعوب الأوروبية وإقامة كيان واحد في المدى الطويل. ضمّت المجموعة في البداية ست دول هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ.

ما لبثت المجمـوعة الاقتصـادية أن تحوّلـت إلى الاتحـاد الأوروبي الذي بات يضمّ 27 دولـة بعد انسحاب بريطانيا الصيف الماضي إثر استفتاء شعبي تولت التمهيد له مجمـوعة من السياسيين الفـاشلين الذين رفعوا شعارات ذات طابع عنصري. كان من بين هذه الشعارات، التي صدّقها المواطنون السذّج، أن الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية ستؤدي إلى إغراق بريطانيا باللاجئين الآتين من سوريا وبمواطنين من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

جاء توسيع الاتحاد الأوروبي على دفعات. كانت كرواتيا آخر الدول التي انضمت إلى الاتحاد في الأوّل من يوليو 2013. تكمن المفارقة في أنّ المملكة المتحدة، التي تضمّ بريطانيا، لعبت دورا أساسيا في توسيع الاتحاد الأوروبي كي يشمل دولا أخرى مثل بلغاريا ورومانيا أو ليتوانيا ولتونيا وإستونيا وتشيكيا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا. كان الهدف البـريطاني تذويب النفـوذ الذي كـان يمكـن أن يمارسه الثنائي الألماني- الفرنسي لا أكثر.

إلى أين تتجه أوروبا الآن؟ الأكيد أن الوضع في دولها ليس على ما يرام. استطاعت هولندا قبل أسابيع قليلة تجاوز كارثة وصول اليمين المتطرّف إلى السلطة، لكنّ المشكلة الأكبر تبقى فرنسا والانتخابات الرئاسية فيها. ليس بين المرشّحين من يمكن التعويل عليه في أيّ مجال من المجالات. فرنسا التي أعاد شارل ديغول الحياة إليها انتهت إلى غير رجعة. كان آلان جوبيه يمثّل الأمـل الأخير في التقـاط الأنفـاس الفرنسية، لا لشيء سوى لأنّه يمتلـك ما يكفي من الخبرة للخروج من المستنقع الذي غرق فيه البلد منذ وصول نيكولا ساركوزي إلى السلطة خلفا لجاك شيراك. ما عجز ساركوزي عن تحقيقه، أكمله فرنسوا هولاند الذي قضى على الاقتصاد وجعل أصحاب رؤوس الأمـوال يغادرون البلد إلى غير رجعة.

كانت فرنسا قصّة نجاح بعدما صالحها ديغول مع نفسها أوّلا. عندما تولّى السلطة في العـام 1958 وأسس الجمهـورية الخـامسة، اخرج فرنسا أوّلا من الفوضى السياسية التي ميّزت الجمهورية الرابعة. استعان بأفضل الخبراء لوضع الأسس لدستور عصري يسمح لرئيس الجمهورية بأن يكـون رئيسا فعليـا للدولة. ذهب إلى أبعد من ذلك في الإصلاحات الاقتصادية وأحل “الفرنك الجديد” مكان الفرنك القديم الذي فقد الكثير من قيمته في ظلّ أزمة سياسية واقتصـادية مريعة ترافقت مع “حرب الجزائر”. أنهى ديغول الحرب في الجزائر التي استقلت في العام 1962، ثمّ باشر عملية إعادة الوزن لفرنسا وليس لعملتها فقط.

بين 1958 ونهاية عهد جاك شيراك في العام 2007، كانت فرنسا قوّة ذات وزن على الصعيدين الأوروبي والدولي. في أساس قوّة فرنسا نفوذها داخل الاتحاد الأوروبي وقدرتها على تحويل هذا الاتحاد إلى مركز ثقل عالمي على كلّ صعيد، خصوصا في إطار إيجاد توازن مع الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لا شكّ أن ألمانيا تبقى الدولة الأوروبية الأهمّ لكن الحلـف الفرنسي- الألمـاني جعل أوروبا تمتلك وزنـا سياسيا واقتصـاديا، حتّى عنـدما انحازت بريطانيا كلّيا إلى الولايات المتحدة في عهدي مارغريت تاتشر وتوني بلير.

ستقرر الانتخابات الفرنسية ما إذا كانت أوروبا ستكون قادرة على التقاط أنفاسها واستعادة موقعها العالمي، خصوصا في ظلّ إدارة أميركية لا تقيم لها اعتبارا كبيرا. أكثر من ذلك، تشجّع إدارة ترامب على انفراط العقد الأوروبي. لم يخف الرئيس الأميركي الجديد موقفه من أوروبا في أي وقت. حرص على استقبال رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بعيد دخوله البيت الأبيض. بدا وكأنه يريد الاطمئنان إلى أن بريطانيا ستخرج نهائيا من أوروبا.

في غياب الموقف الموحّد من الإرهاب الذي ضرب أخيرا في لندن والذي تقف خلفه تنظيمات مثل “داعش”، وفي غياب القدرة على تكوين فهم جماعي لخطورة الميليشيات المذهبية الإيرانية التي تشكّل الوجه الآخر للعملة الواحدة المسمّاة الإرهاب المتلطي بالدين، تبدو أوروبا وكأنّها تبحث عن نفسها.

يُخشى أن يشكل وصول مارين لوبن إلى الرئاسة الفرنسية الضربة القاضية لأوروبا. نحن أمام امرأة مستعدة لاستفتاء على بقاء فرنسا في الاتحاد الأوروبي. هناك في الوقت ذاته عداء من لوبن للعملة الأوروبية (اليورو). ماذا سيحل بالاتحاد الأوروبي إذا أصبحت فرنسا خارجه.. أو إذا لم تعد ذلك العضو الفاعل فيه؟ يقع كلّ ما تؤمن به لوبن خارج السياق الذي جعل من فرنسا تستعيد موقعها الأوروبي والعالمي. هل تحصل أعجوبة في فرنسا قبل شهر من موعد الانتخابات؟

هذا ليس زمن الأعاجيب والمعجزات. من يتمعّن عميقا في صورة ما يدور على الصعيد العالمي، يكتشف أن “بريكسيت”، أي الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ليس حدثا معزولا. إنّه بداية أحداث أوروبية معروف كيف بدأت وليس معروفا كيف ستنتهي أو كيف يمكن أن تنتهي.

ليس الشرق الأوسط وحده الذي يتغيّر، بل أوروبا أيضا تتغيّر في غياب رجال كبار عرفوا كيف يعيدون للقارة القديمة أمجادها وإعادة بنائها بعد كلّ ما دمّرته الحرب العالمية الثانية. استطاع هؤلاء التعايش مع الحرب الباردة ومع التهديد الذي كان يمثّله الاتحـاد السوفياتي وفكره التوتاليتاري. ليس في أوروبا هذه الأيّام زعيم واحد يستطيع ان يسأل حتّى إلى أين يأخذ دونالد ترامب العـالم أو هل يمكن وضع حدّ للسياسات التي يمارسها فلاديمير بوتين الهارب الدائم من الأزمات الداخلية لروسيا إلى مناطق مختلفة في العالم مثل أوكرانيا أو سوريا؟

المصدر : صحيفة العرب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوروبا في مهب الريح أوروبا في مهب الريح



GMT 18:13 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

لا ثقة بحكومة حسّان دياب

GMT 15:45 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

أوراق إيران التي ذبلت

GMT 09:52 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

أكثر من أي وقت… نفتقد نسيب لحّود

GMT 09:43 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

سقوط آخر لبريطانيا

GMT 09:51 2020 الأحد ,02 شباط / فبراير

عندما يهرب لبنان إلى "صفقة القرن"

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 19:08 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العذراء

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 14:43 2018 الجمعة ,28 كانون الأول / ديسمبر

قائمة بأسماء أفضل المطاعم في مدينة إسطنبول التركية

GMT 23:38 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

9 أسباب لفشل عمليات أطفال الأنابيب

GMT 11:09 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

كلويه CHLOE عطر بروح الأناقة من "نو مايد "

GMT 16:16 2019 السبت ,16 آذار/ مارس

دبي تقدم أغلى عطر في العالم "شموخ "

GMT 07:03 2018 الأحد ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تذوق أشهى الأطعمة والمشروبات الساخنة في "نوفوسيبرسك"

GMT 15:32 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

برنامج طبي خاص للاعب طائرة الأهلي عبدالحليم عبو

GMT 22:34 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

ارتفاع مخزونات النفط الأميركي الخام إلى 6.490 مليون برميل

GMT 08:39 2018 الإثنين ,01 تشرين الأول / أكتوبر

الياباني يوشيهيتو نيشيوكا يحصد لقب بطولة شينغن للتنس

GMT 13:56 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف يؤكّد أن عمر جمال يملك عرضًا للرحيل

GMT 04:51 2018 الإثنين ,09 تموز / يوليو

تعرفي على أهم العطور المفضلة لدى المشاهير

GMT 02:00 2018 الأربعاء ,28 شباط / فبراير

ديكورات مثيرة لحمامات كلاسيكية باللون الرمادي

GMT 01:32 2018 الإثنين ,12 شباط / فبراير

لسه فاكر

GMT 15:46 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

الكاتب مصطفى محرم يُشير إلى أقرب الأعمال إلى قلبه

GMT 05:18 2013 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"تويوتا" FCV تستعرض تقنية خلايا الوقود وستطرح

GMT 18:18 2016 السبت ,21 أيار / مايو

بريشة:سعيد الفرماوي

GMT 16:29 2020 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

إيطاليا تدعو إلى استئناف إنتاج وتصدير النفط الليبي دون شروط
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
Libya Today News
Libya Today
Salah Eldain Street
Hay Al-Zouhour
Tripoli
Tripoli, Tripoli District, 218 Libya